أحكام الشريعة الإسلامية في العمل

إن تحول الدول من الزراعة إلى الصناعة، خلق ملايين فرص العمل، ومع تطور الدول وإنشاء الحكومات وازدياد السكان اتسعت الدول والأنظمة الإدارية التابعة لها. مما نتج عنه كذلك ملايين فرص العمل في القطاعين العام والخاص، وأصبح للموظفين والعمال قوانين تضمن حقوقهم، وتنظم علاقتهم مع أصحاب الأعمال. وبما أن القوى العاملة هي العمود الفقري لكل مجالات الأعمال، فقد اهتم المشرعين بتحديد واجبات وحقوق هذا العدد الضخم من الموظفين والعاملين.

في الواقع، هذه التشريعات والقوانين لم تكن من صنع الانسان في معظمها، بل هي ممتدة من الشرائع السماوية، وفي وطننا العربي، تعتبر الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريعات، أي يجب على أي قانون أو تشريع أن يتوافق مع الدين الإسلامي ولا يخالفه.

وفي هذا المقال سنتعرف على حقوق وواجبات الموظف والعامل من وجهة نظر الشريعة الإسلامية وأحكامها، دعنا نبدأ.

في هذا المقال

الشريعة الإسلامية

كلمة الشريعة لغويا هي الطريق المستقيم، وهي مأخوذة من كلمة شرع، وهي كل ما أنزله الله تعالى من معتقدات، وعبادات، وأخلاقيات، وآداب. بالإضافة إلى أحكام المعاملات والعادات، وتأتي العقيدة والعبادة في طليعة ما شرعه الله تعالى وجعله شريعة للعباد.

قال الله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ – [الشورى/13]

ومن خصائص الشريعة إنها إلهية وربانية، محفوظة ومصانة، مستقلة لا تحتاج إلى مكمل، مقدسة، تصلح لأي زمان ومكان، مرنة لتتماشى مع مستجدات كل العصور.

العمل من منظور الشريعة

يدعو الإسلام أتباعه للعمل والإنتاج بإتقان، وربطت الشريعة الإسلامية نجاح العمل، بالدنيا والآخرة، ويؤكد القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة على أهمية العمل.

قال الله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ – [التوبة:105]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ، خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ. – أخرجه البخاري.

وكان الأنبياء قدوة فقد ذكرت مهنهم ومجالات عملهم في العديد من المناسبات، فنبي الله نوح كان نجارا، وداود كان يصنع الدروع، وزكريا كان نجارا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم. لذا فالعمل فرض على كل مسلم قادر على العمل، ولا يجوز له أن يطلب مساعدة أو صدقة طالما كان يقوى على العمل.

بالطبع، يختلف العمل باختلاف الفروع والإنتاجية فهناك العمل بالزراعة، والصناعة، والتجارة. كما أن هناك أعمال تحتاج إلى مجهود عضلي، وأخرى ذهني، وهناك أعمال تحتاج إلى دراسة وتدريب، مثل، العمل في الطب، والعمل في البرمجة، وغيرها الكثير.

الإنتاجية في الإسلام

اهتم الإسلام بعملية الإنتاج وبقواعد وقيم تحقيق الجودة، وسلامة المنتج، دون أن يسمح لرغبات وأهواء المنتجين والصناع والعاملين بالتحكم فيها. يهدف هذا التنظيم إلى تحقيق المصلحة الأولى للمستهلك، ثم مصلحة المنتج والموزع والعامل في المرتبة الثانية. والإنتاجية هي العمل الذي يحدث تغيير في الأشياء لإشباع الحاجات، والعمل المنتج هو العمل الذي يخلق ويزيد المنفعة. والإنتاجية تعتمد على أمرين في غاية الأهمية هما، مقدار الجهد المبذول، ومقدار العائد. فكلما زاد الجهد كمية وكيف، زاد المقابل والمردود، والعكس صحيح. ولتسهيل المعنى فالإنتاجية هي مقدار ما ينتجه العامل من سلعة محددة في وقت محدد. والأجر هو المقابل المالي الذي يحصل عليه العامل من حجم إنتاجه لسلعة معينة في وقت معين.

قال الله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إله غَيْرُهُ ۖ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾ – [هود: 61]

حقوق الموظف في الإسلام

تعد حقوق العامل في الإسلام من الأمور الهامة، والتي تضمن العدالة والإنصاف في المعاملة والأجر. كما ضمن الإسلام للموظف حقه في معاملة حسنة، والإجازات، وعدم الاستغلال.

الحق في أجر عادل

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطي بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى ثمنه ولم يعطه أجره. –  رواه البخاري.

الموظف أجير لدى صاحب عمله، سواء كان هذا العمل حكومي أو خاص، ويجب على صاحب العمل ألا ينقص من أجر العامل. ويحرم عليه إجبار الموظف على التنازل عن جزء من أجره المتفق عليه مستغلا بذلك حاجته، أو عدم قدرة العامل على ترك العمل. ويحق للموظف رفض إرجاع جزء من مستحقاته، أو تقاضي أجر أقل من أجره، وإذا أكرهه صاحب العمل على ذلك فهذا المال مال حرام لا يحل له.

كذلك الأمر مع العلاوة، فقد عرفت الشريعة الإسلامية العلاوات وتم تطبيقها في حياة المسلمين الأوائل. حيث زاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه أجر العمال والموظفين سنويا مع زيادة موارد الدولة الإسلامية. فقد حدد للقاضي راتبا قدره 100 درهم شهريا، وظل هذا الراتب يتزايد حتى وصل في عهد علي بن أبي طالب إلى 500 درهم.

الحق في الكرامة والمعاملة الحسنة

اهتم الإسلام بكرامة الانسان ومكانته، والكرامة والمعاملة الحسنة هي حقوق اجتماعية للموظف ولصاحب العمل، وهي متساوية ولم تفرق الشريعة الإسلامية بينهما. لذا يجب أن يعامل الموظف باحترام وتقدير، وأن تقدر إنسانيته أياً كان جنسه، أو دينه، أو لونه. ولقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحاب الأعمال إلى معاملة العمال والموظفين بلطف وكرم، وحثهم على إظهار الشفقة والرحمة اتجاههم. كما أوصاهم بالبر والإحسان اتجاه العاملين لديهم وعدم فرض مهام تزيد عن قدراتهم، ورفع من مكانة العامل ليكون بمثابة أخ لصاحب العمل، وهذا أمر لم يرد في أي دين آخر.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم – رواه البخاري.

كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق – رواه مسلم

الحق في الإجازة

لكي يستطيع الموظف القيام بعمله على أكمل وجه وبإخلاص وإحسان، يجب عليه الراحة البدنية والذهنية والنفسية من العمل لكي يجدد نشاطه. وبما إن الإجازات هي أحد شروط وبنود التعاقد بين صاحب العمل والموظف، فيجب الالتزام بهذه العقود.

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُود﴾ [المائدة:1]

قال الله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:34]

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حَلالا، وَأَحَلَّ حَرَامًا. – رواه الترمذي وأبو داود

الخصم الجائر من الأجر

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: من اقتطع حقّ مسلم بيمينه، حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النّار، قالوا: وإن كان شيئا يسيرا؟، قال: وإن كان قضيبا من أراك (السواك) – رواه مسلم.

لقد نهى الإسلام عن الخصم الجائر من أجر الموظف أو العامل بدون وجه حق، فهذا ظلم وتعدي على حقوق العامل، بالإضافة إلى إنه لا يشعر العامل بالأمان، وأن اجتهاده وتفانيه في العمل يتساوى مع إهماله في القيام بمهام عمله ففي الحالتين يتم الخصم من أجره.، وهذا أمر لم تغفله الشريعة الإسلامية.

الاستغلال في الشريعة الإسلامية

لقد حرم الإسلام الاستغلال في العمل، والتجارة، وكذلك استغلال عامل أو الموظف، (لا ضرر ولا ضرار) – رواه ابن ماجه. يجب أن يلتزم صاحب العمل بالوصف الوظيفي المذكور في عقد عمل الموظف. ولا يحمله مهام غير مهام عمله، وألا يثقل عليه بكميات عمل لا تتناسب مع الأجر أو عدد ساعات العمل.

قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسْلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة. – أخرجه البخاري

واجبات الموظف في الإسلام

من ناحية أخرى، ألزم الإسلام الموظف بمراعاة مكان عمله، وأوصاه بالأمانة وحسن الخلق، وهناك العديد من الواجبات والمحظورات التي أقرتها الشريعة الإسلامية، ويجب على العامل أو الموظف اتباعها.

مهام العمل أمانة

بما أن الموظف قد ارتضى العمل لدى صاحب العمل في وظيفته وقبل بها وبمهامها الوظيفية، ووافق على الراتب وكل بنود العقد. أصبح أداءه للعمل أمانة ويجب عليه أن يؤدي الأمانة.

قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ – [المؤمنون:8]

لذا، فيجب على الموظف أن يؤدي عمله بأمانة وصدق وإخلاص، وإحسان، حتى تبرأ ذمته أمام رب العالمين، ويحلل المال الذي يكسبه من عمله. وأن يقوم بأداء عمله على أكمل وجه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه – صحيح الجامع للإمام الألباني.

الصدق بشأن الإجازات

يدعي بعض الموظفين المرض للحصول على إجازة مرضية، وآخرون يدعون وفاة أحد الأقارب للحصول على إجازة، وغيرها من أشكال الإجازات التي تمنح للموظف والعامل بناءً على ظرف طارئ. ولقد نهى الإسلام عن تلك التصرفات لأنها كذب، وخيانة للثقة والأمانة.

يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ – [الأنفال: 27]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر. – رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما

الخروج من العمل قبل انتهاء الدوام

من كان أجره بالساعة مثل، العاملين عن بعد، فيحق له الخروج والدخول إلى العمل في أي وقت حيث أنه لا يتم محاسبته على الوقت الذي لا يعمل فيه. ولكن في حال كان الموظف يحصل على راتب شهري، يجب أن يبقى الموظف في مكان عمله، حتى وإن لم يكن لديه ما يفعله. هذا هو الاتفاق في عقد العمل، ويجب عليه احترام اتفاقاته وتنفيذها. فالخروج قبل مواعيد انتهاء العمل يعتبر سرقة، والسارق يقام عليه حد السرقة وهو قطع اليد.

قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ – [المائدة:38]

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ؛ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ. – مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ

“يُعتبر خروج الموظف أثناء ساعات عمله للقيام بالبيع والشراء أمرًا غير جائز شرعا، سواء كان له تصريح من المسؤول عن عمله أم لا. يتضمن هذا الفعل مخالفة لولاة الأمر، ويُحظر له لما قد يترتب عنه من إضاعة الوقت الذي أُكلف به والذي يعد من الأمور التي اُؤتمن عليها. كما يمكن أن يؤدي ذلك إلى إضاعة حقوق المسلمين المستفيدين من عمله، وقد يؤدي أيضًا إلى القيام بالعمل بشكل غير كامل ومتأخر.” انتهى.”فتاوى اللجنة الدائمة (23/415)

الدخول إلى العمل بعد موعد الحضور المحدد

كذلك، يطبق عليه ما نفس حكم الخروج قبل موعد انتهاء الدوام، فإذا كان يحاسب بنظام الساعة، أو كان يعمل عن بعد فلا حرج في ذلك. ولكن إذا كان يعمل براتب شهري فهو يستحل مال ليس من حقه، ويعطل شئون العباد.

سُئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن النظام الرسمي الذي يحدد ساعات العمل، وأبدى بعض الأشخاص سوء السلوك بالتأخير عن موعد الحضور للدوام أو مغادرة العمل قبل مواعيد الانصراف المحددة، حتى يتجاوزوا متطلبات الدوام. فما هو حكم ذلك؟

وأجاب الشيخ: “الواضح أن هذا الأمر لا يحتاج إلى إجابة، لأن الأجر يجب أن يكون مقابل الخدمة المُقدمة، وبنفس الطريقة لا يرضى الموظف أن يتم تخفيض أو اقتطاع أي جزء من راتبه ، لذا يجب عليه ألا ينقص من حقوق جهة عمله. لذا، لا يجوز لأحد أن يتأخر عن مواعيد الحضور الرسمية للدوام، ولا يجوز له أن ينصرف قبل الموعد المحدد للانصراف.” – موقع الإسلام سؤال وجواب

الختام

لقد سبق القرآن الكريم والسنة النبوية كل أنظمة وقوانين ولوائح ومواثيق العمل، وحفظ حقوق أصحاب الأعمال والموظفين والعمال بغض النظر عن ديانتهم، أو جنسهم، أو جنسياتهم، أو ألوان بشرتهم. وجعل قواعد العلاقة بين أصحاب الأعمال والعاملين لديهم واضحة ولا لبس فيها. فعلى الأجير أن يحسن أداء عمله على أكمل وجه، وعلى صاحب العمل أن يلتزم بحقوق العامل المادية والمعنوية بدون إذلال أو احتقار أو قهر، أو إساءة معاملة، بل يجب عليه أن يتحلى بالرحمة والعدل والأمانة.